فصل: المسألة الرابعة: في تعريف الأصناف الثمانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المصنف الداعي إلى الله رضي الله عنه: الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رحمه الله، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية، وذلك لا يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة هؤلاء الثمانية.
والدليل عليه العقل والنقل.
أما النقل: فقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَيْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية، فأثبت خمس الغنيمة لهؤلاء الطوائف الخمس، ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب تفرقته على هذه الطوائف، بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤلاء الأصناف، فإما أن يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة موزعًا على كل هؤلاء فلا، فكذا هاهنا مجموع الصدقات تكون لمجموع هذه الأصناف الثمانية.
فإما أن يقال: إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه الأصناف الثمانية، فاللفظ لا يدل عليه ألبتة.
وأما العقل: فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع، ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء.
فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره، والذي يدل على صحة قولنا وجوه: الأول: أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين دينارًا لما وجب عليه إخراج نصف دينار، فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسمًا لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيرًا صغيرًا غير منتفع به في مهم معتبر.
الثاني: أن هذا التوقيف لو كان معتبرًا لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر، ولو كان كذلك لما خالفوا فيه، وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر.
الثالث: وهو أن الشافعي رحمه الله له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات، فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة، ولا يمر به أحد من الغرباء، واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديونًا فكيف تكليفه؟ فإن قلنا: وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه، فذاك قول لم يقل به أحد! وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب، والله أعلم.

.المسألة الرابعة: في تعريف الأصناف الثمانية:

فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين، ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم.
ثم اختلفوا فقال بعضهم: الذي يكون أشد حاجة هو الفقير؛ وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه.
وقال آخرون: الذي أشد حاجة هو المسكين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، ومن الناس من قال: لا فرق بين الفقراء والمساكين، والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين، والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، واختيار أبي علي الجبائي، وفائدته تظهر في هذه المسألة، وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فالذين قالوا: الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث، والذين قالوا: الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف.
وقال الجبائي: إنه تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية.
وأيضًا الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم.
واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا، وهو أن رجلًا لو قال: أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين، وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله من كان أشد حاجة، وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعًا لحاجتهم وتحصيلًا لمصلحتهم، وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة، لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ألا ترى أنه يقال: أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي، ومن فضل عليًا على عثمان يقول علي وعثمان، وأنشد عمر قول الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا

فقال هلا قدم الإسلام على الشيب؟ فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين.
الوجه الثاني: قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالًا من المسكين، لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومجروح وجريح، فثبت أن الفقير إنما سمي فقيرًا لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت ** رفع القوادم كالفقير الأعزل

قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار، يضرب مثلًا لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور، ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24، 25] جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي.
الوجه الثالث: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام، كان يتعوذ من الفقر، وقال: «كاد الفقر أن يكون كفرًا» ثم قال: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين» فلو كان المسكين أسوأ حالًا من الفقير لتناقض الحديثان، لأنه تعوذ من الفقر، ثم سأل حالًا أسوأ منه، أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض ألبتة.
الوجه الرابع: أن كونه مسكينًا، لا ينافي كونه مالكًا للمال بدليل قوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين} [الكهف: 79] فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيرًا مع أنه يملك شيئًا.
فإن قالوا: الدليل عليه قوله تعالى: {والله الغنى وَأَنتُمُ الفقراء} [محمد: 38] فوصف الكل بالفقر مع أنهم يملكون أشياء.
قلنا: هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى، فإن أحدًا سوى الله تعالى لا يملك ألبتة شيئًا بالنسبة إلى الله فصح قولنا.
الوجه الخامس: قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14 16] والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي قد ألصق بالتراب من شدة الفقر، فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه {ذَا مَتْرَبَةٍ} وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئًا، فهذا يدل على أن كونه مسكينًا لا ينافي كونه مالكًا لبعض الأشياء.
الوجه السادس: قال ابن عباس رضي الله عنهما، الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئًا، قال: وهم أهل الصفة، صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس.
وجه الاستدلال: أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر، فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين، ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحدًا شيئًا أشد من أحوال من يحتاج، ثم يسأل الناس ويطوف عليهم، ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالًا من المسكين.
الوجه السابع: أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون، فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئًا فقد سكن قلبه، وزال عنه الخوف والقلق، ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم؛ لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال، فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير، ويقال: تمسكن الرجل إذا لان وتواضع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي: «تأن وتمسكن» يريد تواضع وتخشع، فدل هذا على أن المسكين هو السائل.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى قال في آية أخرى: {وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] فلما ثبت بما ذكرنا هاهنا أن المسكين هو السائل، وجب أن يكون المحروم هو الفقير، ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان، فثبت أن الفقير أسوأ حالًا من المسكين.
الوجه الثامن: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أحيني مسكينًا» الحديث، والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكينًا، وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكينًا لا ينافي كونه مالكًا لبعض الأشياء، أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام: «كاد الفقر أن يكون كفرًا» فثبت بهذا أن الفقر أشد حالًا من المسكنة.
الوجه التاسع: أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان، كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا: الترفع والتمسكن ضدان؛ فمن كان منقادًا لكل أحد خائفًا منهم متحملًا لشرهم ساكتًا عن جوابهم متضرعًا إليهم.
قالوا: إن فلانًا يظهر الذل والمسكنة، وقالوا: إنه مسكين عاجز، وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى، وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكينًا، إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة، وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعًا عن التواضع والمسكنة، فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع، والأول ينافي حصول المال، والثاني لا ينافي حصوله.
الوجه العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة: «خذها من أغنيائهم، وردها على فقرائهم» ولو كانت الحاجة في المساكين أشد، لوجب أن يقول: وردها على مساكينهم، لأن ذكر الأهم أولى، فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ حالًا من المسكين، واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالًا من الفقير بوجوه: الأول: احتجوا بقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] وصف المسكين بكونه ذا متربة، وذلك يدل على نهاية الضر والشدة، وأيضًا أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له، ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع.
الثاني: احتجوا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم يترك له سَبَدُ

سماه فقيرًا وله حلوبة.
الثالث: قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس.
الرابع: نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا: الفقير الذي له ما يأكل.
والمسكين الذي لا شيء له، وقال يونس: الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له، وقلت لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين.
والجواب: عن تمسكهم بالآية أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا، فإنه لما قيد المسكين المذكور هاهنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة قوله: أنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه، قلنا: نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة، وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين.
والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيرًا فقد كانت له حلوبه ثم السيد لم يترك له شيئًا، فلم لا يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيرًا؟
والجواب عن قولهم: المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت.
قلنا: بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال، وسمي مسكينًا إما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه، وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم، وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن الأنباري رحمهما الله، وأيضًا نقل القفال في تفسيره عن جابر بن عبد الله أنه قال: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين الذين لم يهاجروا، وعن الحسن الفقير الجالس في بيته، والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون، والمساكين الذين يسألون، قال مولانا الداعي إلى الله: هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل، والمسكين يسأل، ومن سأل وجد، فكان المسكين أسهل وأقل حاجة.
الصنف الثالث: قوله تعالى: {والعاملين عَلَيْهَا} وهم السعاة لجباية الصدقة، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم، وهو قول الشافعي رحمه الله، وقول عبد الله بن عمر وابن زيد، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه الله يقول هذا أجرة العمل فيتقدر بقدر العمل، والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملًا على الصدقات ليناله منها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملًا على الصدقات، وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم.